من مواعظ الامام علي بن محمد الهادي عليه السلام ( دار البلوى )

قال ( عليه السلام ) : ( إنّ الله جعل الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ) .

الخميس، 2 فبراير 2012

وصايا الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام )

وردت عدّة وصايا للإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، نذكر بعضاً منها :
1ـ وصيته ( عليه السلام ) إلى شيعته ، يحدّد فيها المنهج الذي ينبغي عليهم أن يتبعوه في تلك الظروف الصعبة .
قال ( عليه السلام ) : ( أوصيكم بتقوى الله ، والورع في دينكم ، والاجتهاد لله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر ، وطول السجود ، وحسن الجوار ، فبهذا جاء محمّد ( صلى الله عليه وآله ) .
صلّوا في عشائرهم ، واشهدوا جنائزهم ، وعودوا مرضاهم ، وأدّوا حقوقهم ، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه ، وصدق في حديثه ، وأدّى الأمانة ، وحسن خلقه مع الناس ، قيل : هذا شيعي فيسرّني ذلك .
اتقوا الله ، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً ، جرّوا إلينا كل مودّة ، وادفعوا عنّا كل قبيح ، فإنّه ما قيل من حسن فنحن أهله ، وما قيل من سوء فما نحن كذلك ، لنا حق في كتاب الله ، وقرابة من رسول الله ، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلاّ كذّاب .
اكثروا ذكر الله ، وذكر الموت ، وتلاوة القرآن ، والصلاة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فإنّ الصلاة على رسول الله عشر حسنات ، احفظوا ما وصيّتكم به ، واستودعكم الله ، وأقرأ عليكم السلام ) .
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( ادفع المسألة ما وجدت التحمّل يمكنك ، فإنّ لكل يوم رزقاً جديداً ، واعلم أنّ الإلحاح في المطالب يسلب البهاء ، ويورث التعب والعناء ، فاصبر حتّى يفتح الله لك باباً يسهل الدخول فيه ، فما أقرب الصنيع من الملهوف ، والأمن من الهارب المخوف ، فربما كانت الغِير نوع من أدب الله ، والحظوظ مراتب ، فلا تعجل على ثمرة لم تدرك ، وإنّما تنالها في أوانها .
واعلم أنّ المدبّر لك أعلم بالوقت الذي يصلح حالك فيه ، فثق بخيرته في جميع أمورك يصلح حالك ، ولا تعجل بحوائجك قبل وقتها ، فيضيق قلبك وصدرك ويغشاك القنوط ، واعلم أنّ للسخاء مقداراً ، فإن زاد عليه فهو سرف ، وإنّ للحزم مقداراً فإن زاد عليه فهو تهوّر ، وأحذر كل ذكي ساكن الطرف ، ولو عقل أهل الدنيا خربت ) .
3ـ وصيته ( عليه السلام ) إلى الفقيه المشهور بابن بابويه : ( أمّا بعد ، أوصيك يا شيخي ، ومعتمدي ، وفقيهي - أبا الحسن علي بن الحسين القمّي ـ ، وفّقك الله لمرضاته ، وجعل من صلبك أولاداً صالحين برحمته ، بتقوى الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فإنّه لا تقبل الصلاة من مانعي الزكاة .
وأوصيك بمغفرة الذنب ، وكظم الغيظ ، وصلة الرحم ، ومواساة الأخوان ، والسعي في حوائجهم في العسر واليسر ، والحلم عن الجهل ، والتفقّه في الدين ، والترتيب في الأمور ، والتعهّد للقرآن ، وحسن الخلق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
قال الله عزّ وجلّ : ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْـلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) ـ النساء : 114 ـ واجتناب الفواحش كلّها .
وعليك بصلاة الليل ، ومن استخف بصلاة الليل فليس منّا ، فاعمل بوصيّتي ، وأمر شيعتي حتّى يحملوا عليه ، وعليك بانتظار الفرج ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج ) .
ولا يزال شيعتنا في حزن حتّى يظهر ولدي الذي بشّر به النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً .
فاصبر يا شيخي ، وأمر جميع شيعتي بالصبر ، ( إِنَّ الاَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيــنَ ) ـ الأعراف : 128 ـ .
والسلام عليك وعلى جميع شيعتنا ورحمة الله وبركاته ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير ) .

ولادة الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)

اسمه وكنيته ونسبه(عليه السلام)

الإمام أبو محمّد، الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).

ألقابه(عليه السلام)

العسكري، السراج، الخالص، الصامت، التقي، الزكي... وأشهرها العسكري.

تاريخ ولادته(عليه السلام) ومكانها

8 ربيع الثاني 232ﻫ، المدينة المنوّرة.

أُمّه(عليه السلام) وزوجته

أُمّه السيّدة سَوْسَن المغربية، وقيل: حديث، وهي جارية، وزوجته السيّدة نرجس خاتون بنت يشوع بن قيصر الروم، وهي أيضاً جارية.

مدّة عمره(عليه السلام) وإمامته

عمره 28 سنة، وإمامته 6 سنوات.

حكّام عصره(عليه السلام) في سني إمامته

المعتَز، المهتدِي، المعتمِد.

عبادته(عليه السلام)

إنّ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) هم القدوة والأُسوة في عبادتهم لله وإخلاصهم له تعالى والتعلّق به دون غيره، وروي أنّ الإمام العسكري(عليه السلام) عندما أُودع في السجن وكّل به رجلان من الأشرار بقصد إيذائه، فتأثّرا به وأصبحا من الفضلاء، فقيل لهما: «ويحكما ما شأنكما في هذا الرجل؟ قالا: ما نقول في رجلٍ يصوم نهاره ويقوم ليله كلّه، ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، وإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا ودخلنا ما لا نملكه من أنفسنا؟»(1).

عظمته(عليه السلام) في القلوب

لقد كان الإمام العسكري(عليه السلام) كآبائه أُستاذاً للعلماء وقدوة لسالكي طريق الحقّ، وزعيماً للسياسة، وعلماً يُشار إليه بالبنان، وتأنس له النفوس وتكنّ له الحبّ والموالاة، فكان من ذلك أن اعترف به حتّى خصماؤه.
وهذا أحمد بن عبيد الله بن خاقان واحد منهم، يصفه ببعض جوانبه وتعلّق الناس به وإكبارهم له، إذ يقول: «ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمّد بن الرضا في هديه وسكونه، وعفافه ونبله، وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر، وكذلك القوّاد والوزراء وعامّة الناس»(2).

كرامة له(عليه السلام)

عن علي بن شابور قال: «قحط الناس بسرّ من رأى في زمن الحسن بن علي العسكري(عليه السلام)، فأمر المتوكّل بالاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيّام يستسقون ويدعون فما سقوا، وخرج الجاثليق في اليوم الرابع مع النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب، فلمّا مدّ يده هطلت السماء بالمطر، وخرجوا في اليوم الثاني فمطرت السماء، فشكّ أكثر الناس وتعجّبوا وصبوا إلى دين النصرانية، فأنفذ المتوكّل إلى الحسن العسكري(عليه السلام)، وكان محبوساً فأخرجه من الحبس، وقال : إلحق أُمّة جدّك(صلى الله عليه وآله) فقد هلكت.
فقال(عليه السلام): "إنّي خارج ومزيل الشك إن شاء الله تعالى"، قال: فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه، وخرج الحسن(عليه السلام) في نفرٍ من أصحابه، فلمّا بصر بالراهب قد مدّ يده أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى ويأخذ ما بين أصبعه، ففعل، وأخذ منه عظماً أسوداً، فأخذه الحسن(عليه السلام) وقال له: "استسق الآن" فاستسقى وكان في السماء غيماً فتقشّع الغيم وطلعت الشمس بيضاء، فقال المتوكّل: ما هذا العظم يا أبا محمّد؟ فقال(عليه السلام): "إنّ هذا الرجل مرّ بقبر من قبور الأنبياء فوقع في يده هذا العظم، وما كشف عن عظم نبي إلّا هطلت السماء بالمطر".
لحا الله قوماً وازنوك بمن عتى ** على الله عدواناً فهدم دينه
يظنّون أنّ القطر ينزل سرعة ** إذا مدّ من غطّى العقول يمينه
ولم يعلموا عظم النبي بكفّه ** ومن أين هذا السرّ يستخرجونه
فلولاك رُدّت للتنصّر أُمّةٌ ** لجدّك قدما دينه يرتضونه
أيا شرّ خلق الله كيف عمدتم ** إلى نور خلاق الورى تطفئونه
صلاة إلهي لا تزال تحفّه ** متى البان أهفى الريح منه غصونه»(3).

في بركة السباع

سُلّم الإمام الحسن(عليه السلام) إلى حبّاس كان يضيّق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتّق الله فإنّك لا تدري من في منزلك، وذكرت له صلاحه وعبادته، وقالت: إنّي أخاف عليك منه.
فقال: والله لأرمينّه إلى السباع. ثمّ استأذن الخليفة في ذلك فأذن له، فرمى به إليها ولم يشكّوا في هلاكه، فنظروا إلى الموضع ليعرفوا الحال، فوجدوه(عليه السلام) قائماً يصلّي والسباع حوله، فأمر بإخراجه إلى داره. ولله درّ من قال:
لحى الله هذا الخارجي بما جنا ** على من له أمر الخلافة والأمر
أيرمي بهذا النور بغياً ببركةٍ ** السباع ولم ينهيه ردع ولا زجر
فنفسي فداء الذي جار دهره ** عليه فأرداه الخداعة والعذر
فإنّي عليه بعد ذلك في غنىً ** ونيران أحزاني يزيد لها سعر
وكيف وقد مضت مصيبة التي ** تكوّر منها الشمس والنجم والبدر
وخرّت له السبع الطباق وزلزلت ** لها طبقات الأرض بل نضب البحر
فيا مدّعي حبّ الإمام فنح له ** بشجوٍ عظيم في الزمان له نشر
وشقّ له جيب التصبّر والعزا * ومت أسفاً حيّاً وإن ضمّك القبر(4).
وقال الشيخ محمّد حسين الأصفهاني(قدس سره) بالمناسبة:
حتّى إذا ألقى في السباع ** وهو ابن ليث غابة الإبداع
شبل علي أسد الله ولا ** يرى لديه الأسد إلّا مثلا(5).

من وصاياه(عليه السلام)(6)

1ـ قال(عليه السلام): «خير إخوانك من نسي ذنبك، وذكر إحسانك إليه».
2ـ قال(عليه السلام): «أضعف الأعداء كيداً من أظهر عداوته».
3ـ قال(عليه السلام): «حسن الصورة جمال ظاهر، وحسن العقل جمال باطن».
4ـ قال(عليه السلام): «من آنس بالله استوحش الناس، وعلامة الأُنس بالله الوحشة من الناس».
5ـ قال(عليه السلام): «جُعلت الخبائث في بيت، والكذب مفاتيحها».
6ـ قال(عليه السلام): «من كان الورع سجيته والكرم طبيعته والحلم خلّته، كثر صديقه والثناء عليه، وانتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه».
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ شرح إحقاق الحق 29/68.
2ـ الكافي 1/305.
3ـ وفيات الأئمّة: 405.
4ـ المصدر السابق: 410.
5ـ الأنوار القدسية: 122.
6ـ بحار الأنوار 75/379.

مكانة الإمام العسكري ( عليه السلام ) في قلوب الناس

كان ( عليه السلام ) كآبائه الكرام علماً لا يخفى ، وإماماً لا يجهله أحد من أهل عصره ، فكان استاذ العلماء ، وقدوة العابدين ، وزعيم السياسة ، يُشار إليه بالبنان ، وتهفو إليه النفوس بالحب والولاء ، ففرض نفسه حتى على حكّام عصره وخصومه .
فهذا أحد مخالفيه يصف جانباً من مكانة الإمام ومقامه الاجتماعي ، ومدى تعلق الناس به واحترامهم له اذ يقول : عندما ذاع خبر وفاة الإمام ( عليه السلام ) حدثت ضجة في سامراء وعطّلت الأسواق ، وتوجّه الناس بمختلف طبقاتهم الى مكان الجنازة ، وكأن القيامة قد قامت في المدينة .

كلمات الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) القصار

وردت عدّة كلمات قصار للإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، نذكر بعضاً منها :
1ـ قال ( عليه السلام ) : ( خير إخوانك من نسي ذنبك ، وذكر إحسانك إليه ) .
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( أضعف الأعداء كيداً من أظهر عداوته ) .
3ـ قال ( عليه السلام ) : ( حسن الصورة جمال ظاهر ، وحسن العقل جمال باطن ) .
4ـ قال ( عليه السلام ) : ( أولى الناس بالمحبّة منهم من أمّلوه ) .
5ـ قال ( عليه السلام ) : ( من آنس بالله استوحش الناس ، وعلامة الأنس بالله الوحشة من الناس ) .
6ـ قال ( عليه السلام ) : ( جعلت الخبائث في بيت ، والكذب مفاتيحها ) .
7ـ قال ( عليه السلام ) : ( إذا نشطت القلوب فأودعوها ، وإذا نفرت فودّعوها ) .
8ـ قال ( عليه السلام ) : ( اللحاق بمن ترجو خير من المقام مع من لا تأمن شرّه ) .
9ـ قال ( عليه السلام ) : ( الجهل خصم ، والحلم حكم ، ولم يعرف راحة القلوب من لم يجرّعه الحلم غصص الصبر والغيظ ) .
10ـ قال ( عليه السلام ) : ( من ركب ظهر الباطل نزل به دار الندامة ) .
11ـ قال ( عليه السلام ) : ( المقادير الغالبة لا تدفع بالمغالبة ، والأرزاق المكتوبة لا تنال بالشره ، ولا تدفع بالإمساك عنها ) .
12ـ قال ( عليه السلام ) : ( نائل الكريم يحببّك إليه ويقرّبك منه ، ونائل اللئيم يباعدك منه ويبغضك إليه ) .
13ـ قال ( عليه السلام ) : ( من كان الورع سجيته ، والكرم طبيعته ، والحلم خلّته كثر صديقه ، والثناء عليه ، وانتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه ) .
14ـ قال ( عليه السلام ) : ( السَهر ألذّ للمنام ، والجوع أزيد في طيب الطعام ) .
15ـ قال ( عليه السلام ) : ( المؤمن بركة على المؤمن ، وحجّة على الكافر ) .
16ـ قال ( عليه السلام ) : ( قلب الأحمق في فمه ، وفم الحكيم في قلبه ) .
17ـ قال ( عليه السلام ) : ( لا يشغلك رزق مضمون عن عمل مفروض ) .
18ـ قال ( عليه السلام ) : ( من تعدّى في طهوره كان كناقضه ) .
19ـ قال ( عليه السلام ) : ( ما ترك الحقَ عزيزٌ إلاّ ذلّ ، ولا أخذ به ذليل إلاّ عزّ ) .
20ـ قال ( عليه السلام ) : ( صديق الجاهل تعب ) .
21ـ قال ( عليه السلام ) : ( خصلتان ليس فوقهما شيء : الإيمان بالله ونفع الإخوان ) .
22ـ قال ( عليه السلام ) : ( جرأة الولد على والده في صغره تدعو إلى العقوق في كبره ) .
23ـ قال ( عليه السلام ) : ( ليس من الأدب إظهار الفرح عند المحزون ) .
24ـ قال ( عليه السلام ) : ( خير من الحياة ما إذا فقدته بغضت الحياة ، وشر من الموت ما إذا نزل بك أحببت الموت ) .
25ـ قال ( عليه السلام ) : ( رياضة الجاهل وردّ المعتاد عن عادته كالمعجز ) .
26ـ قال ( عليه السلام ) : ( التواضع نعمة لا يحسد عليها ) .
27ـ قال ( عليه السلام ) : ( لا تكرم الرجل بما يشقّ عليه ) .
28ـ قال ( عليه السلام ) : ( من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد شانه ) .
29ـ قال ( عليه السلام ) : ( ما من بلية إلاّ ولله فيها نعمة تحيط بها ) .
30ـ قال ( عليه السلام ) : ( ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذلّه ) .

كرامات الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام )

يتميّز الأئمة ( عليهم السلام ) بارتباطٍ خاصٍّ بالله تعالى وعالَم الغيب ، بسبَبِ مقامِ العصمة والإمامة ، ولَهُم - مثل الأنبياء - معاجزٌ وكرامَاتٌ تؤيِّد ارتباطهم بالله تعالى ، وكونَهم أئمة ، وللإمام العسكري ( عليه السلام ) معاجزٌ وكراماتٌ كثيرةٌ ، سجَّلَتْها كتبُ التاريخ ، ونذكر هنا بعضاً منها :

الكرامة الأولى :

عن أبي هاشم الجعفري قال : لما مضى أبو الحسن ( عليه السلام ) صاحب العسكر ، اشتغل أبو محمّد ابنه بغسله وشأنه ، وأسرع بعض الخدم إلى أشياء احتملوها من ثياب ودراهم وغيرها .
فلمّا فرغ أبو محمّد ( عليه السلام ) من شأنه ، صار إلى مجلسه فجلس ، ثمّ دعا أولئك الخدم ، فقال لهم : ( إن صدّقتموني عمّا أحدثكم فيه ، فأنتم آمنون من عقوبتي ، وإن أصررتم على الجحود دللت على كل ما أخذه كل واحد منكم ، وعاقبتكم عند ذلك بما تستحقونه منّي ) .
ثمّ قال : ( أنت يا فلان ، أخذت كذا وكذا ، أكذلك هو ؟ ) قال : نعم يا ابن رسول الله ، قال : ( فردّه ) .
ثمّ قال : ( وأنت يا فلانة أخذت كذا وكذا ، أكذلك هو ؟ ) قالت : نعم ، قال : ( فردّيه ) .
فذكر لكل واحد منهم ما أخذه وصار إليه حتّى ردّوا جميع ما أخذوه .

الكرامة الثانية :

قال أبو هاشم الجعفري : إنّ أبا محمّد ( عليه السلام ) ركب يوماً إلى الصحراء فركبت معه ، فبينا نسير وهو قدّامي وأنا خلفه ، إذ عرض لي فكر في دين كان عليّ قد حان أجله ، فجعلت أفكر من أي وجه قضاؤه .
فالتفت إلي فقال : ( يا أبا هاشم الله يقضيه ) ، ثمّ انحنى على قربوس سرجه ، فخطّ بسوطه خطّة في الأرض ، وقال : ( انزل فخذ واكتم ) .
فنزلت فإذا سبيكة ذهب ، قال : فوضعتها في خفي وسرنا ، فعرض لي الفكر ، فقلت : إنّ كان فيها تمام الدين وإلاّ فإنّي أرضي صاحبه بها ، ويجب أن ننظر الآن في وجه نفقة الشتاء ، وما نحتاج إليه فيه من كسوة وغيرها .
فالتفت إليّ ثمّ انحنى ثانية ، وخطّ بسوطه خطّة في الأرض مثل الأولى ، ثمّ قال : ( انزل فخذ واكتم ) .
قال : فنزلت ، وإذا سبيكة فضّة فجعلتها في خفي الآخر ، وسرنا يسيراً ، ثمّ انصرف إلى منزله وانصرفت إلى منزلي ، فجلست فحسبت ذلك الدين وعرفت مبلغه ، ثمّ وزنت سبيكة الذهب فخرجت بقسط ذلك الدين ما زادت ولا نقصت ، ثمّ نظرت فيما نحتاج إليه لشتوتي من كل وجه ، فعرفت مبلغه الذي لم يكن بد منه على الاقتصاد ، بلا تقتير ولا إسراف ، ثمّ وزنت سبيكة الفضة ، فخرجت على ما قدرته ما زادت ولا نقصت .

الكرامة الثالثة :

روي عن علي بن زيد بن علي بن الحسين بن زيد بن علي ( عليهم السلام ) ، قال : صحبت أبا محمّد ( عليه السلام ) من دار العامّة إلى منزله ، فلمّا صار إلى الدار وأردت الانصراف ، قال : ( أمهل ) ، فدخل ثمّ أذن لي .
فدخلت فأعطاني مائة دينار ، وقال : ( صيّرها في ثمن جارية ، فإنّ جاريتك فلانة ماتت ) ، وكنت خرجت من منزلي وعهدي بها أنشط ما كانت ، فمضيت فإذا الغلام قال : ماتت جاريتك فلانة الساعة .
قلت : ما حالها ؟ قال : شربت ماء ، فشرقت فماتت .

الكرامة الرابعة :

قال أبو هاشم الجعفري : كنت محبوساً مع أبي محمّد ( عليه السلام ) في حبس المهتدي بن الواثق ، فقال لي : ( إنّ هذا الطاغي أراد أن يتعبث بالله في هذه الليلة ، وقد بتر الله عمره ، وساء رزقه ) .
فلمّا أصبحنا شغب الأتراك على المهتدي فقتلوه ، وولي المعتمد مكانه ، وسلّمنا الله .

الكرامة الخامسة :

قال الحسن بن ظريف : اختلج في صدري مسألتان أردت الكتابة بهما إلى أبي محمّد ( عليه السلام ) ، فكتبت أسأله عن القائم ( عليه السلام ) بم يقضي ؟ وأين مجلسه ؟ وكنت أردت أن أسأله عن شيء لحمى الربع ، فأغفلت ذكر الحمى .
فجاء الجواب : ( سألت عن القائم إذا قام ، يقضي بين الناس بعلمه كقضاء داود ، ولا يسأل البينة ، وكنت أردت أن تسأل لحمى الربع فأنسيت ، فاكتب في ورقة وعلّقه على المحموم : يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبراهِيمَ ) ، فكتبته وعلّقته على المحموم فبرأ .

الكرامة السادسة :

قال علي بن زيد بن علي بن الحسين بن زيد بن علي ( عليه السلام ) : كان لي فرس كنت به معجباً ، أكثر ذكره في المجالس ، فدخلت على أبي محمّد ( عليه السلام ) يوماً ، فقال : ( ما فعل فرسك ؟ ) قلت : هو ذا على بابك الآن .
فقال : ( استبدل به قبل المساء إن قدرت على مشتر لا تؤخّر ذلك ) ، ودخل داخل فانقطع الكلام ، فقمت مفكّراً ومضيت إلى منزلي ، فأخبرت أخي بذلك ، فقال : ما أدري ما أقول في هذا ، وشححت به ، ونفست على الناس به ، فلمّا صلّيت العتمة جاءني السائس .
فقال : نفق فرسك الساعة فاغتممت ، وعلمت أنّه عنى هذا بذلك القول .
فدخلت على أبي محمّد ( عليه السلام ) من بعد ، وأنا أقول في نفسي ليته أخلف عليّ دابة ، فقال قبل أن أتحدّث بشيء : ( نعم ، نخلف عليك ، يا غلام أعطه برذوني الكميت ) ، ثمّ قال لي : ( هذا خير من فرسك ، وأوطأ وأطول عمراً ) .

الكرامة السابعة :

روي عن أبي حمزة نصير الخادم قال : سمعت أبا محمّد ( عليه السلام ) غير مرّة يكلّم غلمانه وغيرهم بلغاتهم ، وفيهم روم وترك وصقالبة ، فتعجّبت من ذلك ، وقلت : هذا ولد هنا ، ولم يظهر لأحد حتّى مضى أبو الحسن ، ولا رآه أحد ، فكيف هذا ؟ أحدث بهذا نفسي .
فأقبل عليّ فقال : ( إنّ الله بيّن حجّته من بين سائر خلقه ، وأعطاه معرفة كل شيء ، فهو يعرف اللغات والأسباب والحوادث ، ولولا ذلك لم يكن بين الحجّة والمحجوج فرق ) .

الكرامة الثامنة :

قال ابن الفرات : كان لي على ابن عم عشرة آلاف درهم ، فكتبت إلى أبي محمّد ( عليه السلام ) أسأله الدعاء لذلك ، فكتب إليّ أنّه راد عليك مالك ، وهو ميّت بعد جمعة ، قال : فردّ عليّ ابن عمّي مالي ، فقلت له : ما بدا لك في ردّه وقد منعتنيه ؟
قال : رأيت أبا محمّد ( عليه السلام ) في النوم ، فقال : ( إنّ أجلك قد دنا ، فردّ على ابن عمّك ماله ) .

الكرامة التاسعة :

قال علي بن الحسن بن سابور : قحط الناس بسر من ‏رأى في زمن الحسن الأخير ( عليه السلام ) ، فأمر المعتمد بن المتوكّل الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا إلى الاستسقاء .
فخرجوا ثلاثة أيّام متوالية إلى المصلّى يستسقون ويدعون ، فما سقوا ، فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء ومعه النصارى والرهبان ، وكان فيهم راهب ، فلمّا مد يده هطلت السماء بالمطر .
وخرج في اليوم الثاني ، فهطلت السماء بالمطر ، فشكّ أكثر الناس ، وتعجّبوا وصبّوا إلى النصرانية ، فبعث الخليفة إلى الحسن ( عليه السلام ) ، وكان محبوساً فاستخرجه من حبسه ، وقال : ألحق أمّة جدّك فقد هلكت .
فقال له : ( إنّي خارج في الغد ، ومزيل الشك إن شاء الله ) .
فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه ، وخرج الحسن ( عليه السلام ) في نفر من أصحابه ، فلمّا بصر بالراهب ، وقد مدّ يده ، أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى ، ويأخذ ما بين إصبعيه ففعل ، وأخذ من بين سبابته والوسطى عظماً أسود ، فأخذ الحسن ( عليه السلام ) بيده ، ثمّ قال له : ( استسق الآن ) ، فاستسقى وكانت السماء متغيّمة فتقشّعت ، وطلعت الشمس بيضاء ، فقال الخليفة : ما هذا العظم يا أبا محمّد ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( هذا رجل مر بقبر نبي من أنبياء الله ، فوقع في يده هذا العظم ، وما كشف عن عظم نبي إلاّ هطلت السماء بالمطر ) .

الكرامة العاشرة :

قال محمّد بن عبد الله : وقع أبو محمّد ( عليه السلام ) ـ وهو صغير ـ في بئر الماء ، وأبو الحسن ( عليه السلام ) في الصلاة ، والنسوان يصرخن ، فلمّا سلّم قال : ( لا بأس ) ، فرأوه وقد ارتفع الماء إلى رأس البئر ، وأبو محمّد على رأس الماء يلعب بالماء .

علم الإمام العسكري ( عليه السلام )

عاش الإمام العسكري ( عليه السلام ) في القرن الثالث الهجري ، وهو قرن كانت المدارس الفكرية قد اكتملت فيه شخصيتها ، خصوصاً في مجال الفقه ومذاهبه ، والتفسير والكلام واصول الفقه ، والفلسفة والحديث وغيرها .
وقد تحددت معالم مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) من خلال النشاطات العلميّة للإمام العسكري ( عليه السلام ) إذ قام بإعداد ثلة من الرواة والتلاميذ ، وما قام به من مراسلات ومحاورات واجوبة على المسائل المختلفة ، وما روى من أحاديث ، وبث من علوم ومعارف ، فقد نقلت عنه ( عليه السلام ) ذلك كتب الاحاديث والتفسير ، والمناظرة وعلم الكلام وغيرها .

عبادة الإمام العسكري ( عليه السلام )

لا شك أن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) هم قدوة الامة في العبادة ، والإخلاص لله عزّوجل ، وواضح أن من أبرز العناصر المقوّمة للإمامة هو عنصر الإخلاص لله سبحانه ، والتعلق به دون سواه ، وإن من أبرز معالم هذا الإخلاص والعبودية لله في حياة البشرية ، هو العبادة والتسليم لإمر الله سبحانه .
وقد ورد في كثير من الروايات التي وصلتنا أنها تتحدث عن عبادة الإمام العسكري ( عليه السلام ) كما تحدثت عن عبادة آبائه ( عليهم السلام ) ، ومن أهمها ، الروايات التي تحدثت عن عبادته ( عليه السلام ) وكيفية تعلقه بالله عزّوجلّ حتى عندما كان في السجن .
وفي الحقيقة ان هذه الصورة تعيد الى الاذهان صورة جدّه الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) عندما كان في سجن هارون الرشيد ، وهو يقول : ( إني دعوت الله أن يفرغني للعبادة ففعل ) .
وقد روي عن الإمام العسكري ( عليه السلام ) عندما أودع السجن أيام الحكم العباسي ، أنّه كان يصوم نهاره ويقوم ليله ، لا يتكلم ولا يتشاغل بغير عبادة الله سبحانه .

رسالة الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) حول أهمّية الإمامة

أرسل الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) رسالة إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري ـ أحد أصحابه الثقاة ـ بيّن فيها ( عليه السلام ) مدى أهمّية الإمامة ، جاء فيها :
( سترنا الله وإيّاك بستره ، وتولاّك في جميع أمورك بصنعه ، فهمت كتابك يرحمك الله ، ونحن بحمد الله ونعمته ، أهل بيت نرق على أوليائنا ، ونسرُّ بتتابع إحسان الله إليهم ، وفضله لديهم ، ونعتدّ بكل نعمة ينعمها الله تبارك وتعالى عليهم .
فأتم الله عليك يا إسحاق وعلى من كان مثلك - ممّن قد رحمه الله وبصّره بصيرتك - نعمته وقدر تمام نعمته دخول الجنّة ، وليس من نعمة ، وإن جل أمرها وعظم خطرها ، إلاّ وتقدّست أسماؤه عليها ، مؤدٍ شكرها .
وأنا أقول : الحمد لله أفضل ما حمده حامد إلى أبد الأبد ، بما منّ الله عليك من رحمته ، ونجّاك من الهلكة ، وسهّل سبيلك على العقبة ، وأيم الله أنّها لعقبة كؤود ، شديد أمرها ، صعب مسلكها ، عظيم بلاؤها ، قديم في الزبر الأولى ذكرها .
ولقد كانت منكم في أيّام الماضي ( عليه السلام ) إلى أن مضى لسبيله ، وفي أيّامي هذه ، أمور كنتم فيها عندي غير محمودي الرأي ، ولا مسدّدي التوفيق .
فاعلم يقيناً يا إسحاق : أنّه من خرج من هذه الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً .
يا إسحاق ليس تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، وذلك قول الله في محكم كتابه حكاية عن الظالم إذ يقول : ( رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ) ـ طه : 125 – 126 ـ .
وأي آية أعظم من حجّة الله على خلقه ، وأمينه في بلاده ، وشهيده على عباده ، من بعد من سلف من آبائه الأوّلين النبيين ، وآبائه الآخرين الوصيين ( عليهم أجمعين السلام ورحمة الله وبركاته ) .
فأين يتاه بكم وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم ، عن الحق تصدفون ، وبالباطل تؤمنون ، وبنعمة الله تكفرون ، أو تكونون ممّن يؤمن ببعض الكتاب ، ويكفر ببعض ، فما جزاء من يفعل ذلك منكم ومن غيركم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ، وطول عذاب في الآخرة الباقية ، وذلك والله الخزي العظيم .
إنّ الله بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض ، لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليكم ، بل رحمة منه - لا إله إلاّ هو - عليكم ليميز الخبيث من الطيّب ، وليبتلي ما في صدوركم ، وليمحّص ما في قلوبكم ، لتسابقوا إلى رحمة الله ، ولتتفاضل منازلكم في جنّته ، ففرض عليكم الحج والعمرة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والصوم والولاية ، وجعل لكم باباً تستفتحون به أبواب الفرائض مفتاحاً إلى سبيله ، لولا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، والأوصياء من ولده ، لكنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرائض ، وهل تدخل مدينة إلاّ من بابها ، فلمّا منَّ عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيكم ، قال الله في كتابه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) ـ المائدة : 3 ـ .
ففرض عليكم لأوليائه حقوقاً أمركم بأدائها ليحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومأكلكم ومشاربكم ، قال : ( لآ أَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ـ الشورى : 23 ـ واعلموا أنّ من يبخل فإنّما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، لا إله إلاّ هو ، ولقد طالت المخاطبة فيما هو لكم وعليكم .
ولولا ما يحب الله من تمام النعمة من الله عليكم ، لما رأيتم لي خطاً ولا سمعتم منّي حرفاً ، من بعد مضي الماضي ( عليه السلام ) ، وأنتم في غفلة مما إليه معادكم ، ومن بعد إقامتي لكم إبراهيم بن عبدة ، وكتابي الذي حمله إليكم محمّد بن موسى النيسابوري ، والله المستعان على كل حال ، وإيّاكم أن تفرطوا في جنب الله فتكونوا من الخاسرين ، فبعداً وسحقاً لمن رغب عن طاعة الله ، ولم يقبل مواعظ أوليائه ، فقد أمركم الله بطاعته ، وطاعة رسوله ، وطاعة أولي الأمر .
رحم الله ضعفكم وغفلتكم ، وصبركم على أمركم ، فما أغر الإنسان بربّه الكريم ، ولو فهمت الصم الصلاب بعض ما هو في هذا الكتاب لتصدعت قلقاً وخوفاً من خشية الله ، ورجوعاً إلى طاعة الله ، واعملوا ما شئتم ( فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، ثم تُردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمّد وآله أجمعين ) .

تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام )

نذكر عدَّة موارد لتفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) القرآنَ الكريم :

المورد الأول :

لقد شغلَتْ الحروفُ المقطَّعة بالَ المفسِّرين ، فضرَبوا يميناً وشمالاً ، وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولاً .
ولكنَّ الإمام ( عليه السلام ) عالجَ تلك المُعضلة بأحسن الوجوه وأقصرها ، إذ قال ( عليه السلام ) : ( كَذبَتْ قُريشٌ واليَهودُ بالقرآنِ ، وقَالوا سِحْر مبين تقوَّلَه .
فَقَالَ اللهَ : ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) البقرة : 1 - 2 .
أي : يَا مُحمَّد ، هَذا الكِتَاب الَّذي نزَّلنَاهُ عَليكَ هُوَ الحُروفُ المقطَّعَة التي منها ( أَلِف ) ، ( لام ) ، (مِيم ) ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم ، فأْتُوا بِمِثْلِهِ إنْ كُنتُم صَادِقِين ، واسْتَعينُوا عَلَى ذَلِكَ بِسَائِرِ شُهَدَائِكُم .
ثُمَّ بيَّن أنَّهُم لا يَقدرُونَ عَلَيه بِقَولِهِ : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ) الإسراء : 88 .
وقد رُوي هذا المعنى عن أبيه الإمام الهادي ( عليه السلام ) .

المورد الثاني :

كان أهل الشغب والجدل يلقون حِبالَ الشَكِّ في طريق المسلمين ، فيقولون : إنَّكم تقولون في صلواتكم : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) الفاتحة : 5 ، أو لستُم فِيه ؟! فما معنى هذه الدعوة ؟! أو إنكم متنكِّبون عنه ، فتدعون ليهديكم إليه ؟! .
ففسَّر الإمام العسكري ( عليه السلام ) الآية قاطعاً لِشَغَبِهِم ، فقال ( عليه السلام ) : ( أَدِمْ لَنَا تَوفِيقَكَ الَّذي بِهِ أطَعْنَاكَ فِي مَاضِي أيَّامِنا ، حَتَّى نُطِيعَكَ كَذَلِكَ فِي مُسْتَقبَلِ أعْمَالِنَا ) .
ثُمَّ فسَّر الإمام ( عليه السلام ) الصراط بقوله : ( الصِّراطَ المُستَقِيم هو صِراطان : صراطٌ في الدُّنيا ، وصراطٌ في الآخِرَة ، أمَّا الأوَّل فَهو مَا قَصُر عَنْ الغُلُوِّ ، وارتَفَع عَن التَّقصيرِ ، واستقامَ فَلَمْ يَعْدِلْ إلى شَيءٍ مِنَ البَاطِلِ .
وأمَّا الطَّرِيقُ الآخَرِ فَهوَ طَرِيقُ المُؤمِنِينَ إلى الجَنَّة ، الَّذي هُو مُستَقِيم ، لا يَعدِلُونَ عَن الجَنَّةِ إلَى النَّارِ ، وَلا إلى غَيرِ النَّارِ سِوَى الجَنَّة ) .
وكان قد استفحل أمرُ الغلاةِ في عصر الإمام العسكري ( عليه السلام ) ، ونَسَبُوا إلى الأئمَّة الهُداة أموراً هم عنها برَاء .
ولأجل ذلك يركِّز الإمام علي ( عليه السلام ) على أنَّ الصراط المستقيم لِكلِّ مسلمٍ هُو التجنُّب عن الغلوِّ والتقصير .

المورد الثالث :

ربما يغترُّ الغافلُ بظاهر قوله سبحانه : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ) الفاتحة : 6 .
ويتصوَّر أنَّ المراد من النعمة هو المَالُ والأولادُ وصِحَّة البدن ، وإنْ كان كُلُّ هذا نعمة من الله ، ولكن المراد من الآية بقرينة قوله : ( غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) الفاتحة : 6 ، هُو نِعْمة التوفيق والهداية .
ولأجلِ ذلك نَرى أنَّ الإمام العسكري ( عليه السلام ) يفسِّر هذا المعنى بقوله : ( قُولُوا : اِهْدِنَا صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عَليهِمْ بالتَّوفِيقِ لِدِينِكَ وَطَاعَتِكَ ، وَهُم الَّذينَ قَالَ اللهُ عزَّ وجلَّ : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) ) النساء : 69 .
ثُمَّ قال ( عليه السلام ) : ( لَيْسَ هَؤلاَء المُنعَم عَلَيهِم بالمَال وصِحَّة البَدَن ، وإنْ كَانَ كُلُّ هَذا نِعْمَةٌ مِن اللهِ ظَاهِرَة ) .

المورد الرابع :

لقد تفشَّتْ آنذاك فكرة عدم علمه سُبْحانه بالأشياء قبل أن تُخلق ، تأثُّراً بتصوِّرات بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة عن اليونان .
فيقول محمد بن صالح : سألتُه عن قول الله : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) الرعد : 39 .
فقال الإمام العسكري ( عليه السلام ) : ( هَلْ يَمحُو إلاَّ مَا كَانَ ، وَهَلْ يُثبِتُ إلاَّ مَا لَمْ يَكُنْ ) .
فقلتُ في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي : أنه لا يعلم الشيء حتى يكون .
فنظر ( عليه السلام ) إليَّ شزراً ، وقال : ( تَعَالَى اللهُ الجَبَّارُ العَالِمُ بالشَّيءِ قَبلَ كَونِهِ ، الخَالِقُ إذْ لا مَخْلُوق ، والرَّبُّ إذْ لا مَرْبوب ، والقَادِرُ قَبْل المَقْدُورِ عَلَيه ) .

الإمام العسكري ( عليه السلام ) يزيل الشك عن الناس

روي عن علي بن الحسن بن سابور قال : قحط الناس في زمن الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، فأمر الخليفة الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا إلى الاستسقاء ، فخرجوا ثلاثة أيام متوالية إلى المُصَلَّى يدعون فما سُقُوا .
فخرج الجاثليق في اليومِ الرابع إلى الصحراء ، ومعه النصارى والرهبان ، وكان فيهم راهب كلما مدَّ يده هطلت السماء بالمطر .
فشكَّ أكثر الناس وتعجـبوا وصَبُوا إلى دين النصرانية ، فأنفذ الخليفة إلى الإمام العسكري ( عليه السلام ) – وكان محبوساً – فاستخرجه من حبسه وقال : إلحق أمَّة جدك فقد هلكت .
فقال ( عليه السلام ) : ( إني خارج في الغدِ ، ومزيلُ الشك إن شاء الله تعالى ) .
فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه ، وخرج الإمام العسكري ( عليه السلام ) في نفرٍ من أصحابه ، فلما بصر بالراهب وقد مدَّ يده أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى ويأخذ ما بين إصبعيه ، فَفَعلَ وأخذ من بين اصبعيه عظماً .
فأخذه الإمام ( عليه السلام ) بيده ثم قال له : ( إستسقِِ الآن ) .
فاستقى وكانت السماء مُتَغَيِّمَةً فتقشَّعَت وطلعت الشمس بيضاء .
فقال الخليفة : ماهذا العظم يا أبا محمد ؟
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( هذا رجل مرَّ بقبر نبيٍّ من الأنبياء ، فوقع إلى يده هذا العظم ، وما كُشِفَ من عظم نبيٍّ إلا وهَطَلَتِ السماء بالمطر ) .

الإمام العسكري ( عليه السلام ) وخلفاء بني العباس

إن الحياة السياسية للدولة العباسية منذ خلافة المنصور وحتى خلافة المعتمد كانت قائمة على أساس القمع والإرهاب بصورة عامَّة ، وللعلويِّين بصورة خاصة .
وقد عاصر الإمام العسكري ( عليه السلام ) مجتمعاً تسودُه حياة البذخ واللَّهو في قصور الخلفاء ، يقابله في الوقت نفسه مجتمع تسوده حالات الفقر ، والجوع ، والمرض ، والإرهاب ، بالإضافة إلى تردِّي الوضع الأخلاقي ، والسياسي ، والإداري ، والفوضى الفكرية .
فكان من الطبيعي أن يتصدَّى الإمام ( عليه السلام ) فيعارض سياسة الدولة ، لذلك عَملت السُلطات العباسية الثلاث وهي سلطة المعتزُّ ، والمهتدي ، والمعتمدُ ، إلى اتِّبَاع سياسة التضييق على الإمام ( عليه السلام ) ومواجهته .
ولما كانت شؤون القيادة والسياسة من مَهَامِّ الإمامة في الإسلام ، لذلك نجد أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) حَمَلوا لواء المعارَضة للسُلطات الحاكمة ، ونادوا بالعمل في كتاب الله وسُنَّة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
كما اتَّخذوا أساليب مختَلِفة لمواجهة الانحرافات ، وقد كلَّفتهم عملية التصدِّي ثمناً باهضاً ، ومعاناة تحمَّلوا فيها الملاحقة ، والسجون ، والقتل ، وغيرها .
فالإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) كما نقلت لنا الروايات وكتب التاريخ ، زُجَّ في السجن ، وحُبِس عِدَّة مرات ، كما زُجَّ بأصحابه في المُعتقلات من قبل حُكَّام عصره .

أدعية الإمام العسكري ( عليه السلام )

حفلت الأدعية التي أُثِرت عن الإمام العسكري ( عليه السلام ) بالدروس التربوية الهادفة إلى بناء صُرُوح العقيدة ، والإيمان بالله ، وتنمية الخوف والرهبة من الله في أعماق نفوس الناس ، لِتصدُّهُم عن الاعتداء ، وتمنعهم عن الظلم والطغيان .
وقد كان اهتمام أهل البيت ( عليهم السلام ) بهذه الجهة اهتماماً بالغاً ، ولم يُؤثَر عن أحد من خِيَارِ المسلمين من الأدعية مثل ما أُثِر عنهم ( عليهم السلام ) .
وإِنَّها لَتُعَد من أروع الثروات الفكرية والأدبية في الإسلام ، فقد حَوَت أصول الأخلاق ، وقواعد السلوك والآداب ، كما ألَمَّتَ بفلسفة التوحيد ومعالم السياسة العادلة وغير ذلك .
ونشير هنا إلى قسم من أدعيته ( عليه السلام ) :

1ـ دعاؤه ( عليه السلام ) للاحتراز من المخاوف :

عن سهل بن يعقوب ، قال : قلت للعسكري ( عليه السلام ) ذات يوم : يا سيّدي ! قد وقع إليّ اختيارات الأيّام عن سيّدنا الصادق ( عليه السلام ) ، ممّا حدّثني به الحسن بن عبد الله بن مظفر ، عن محمّد بن سليمان الديلمي ، عن أبيه ، عن سيّدنا الصادق ( عليه السلام ) في كلّ شهر ، فأعرضه عليك ؟ فقال لي : ( افعل ) .
فلمّا عرضته عليه وصحّحه ، قلت له : يا سيّدي في أكثر هذه الأيّام قواطع عن المقاصد لما ذكر فيها من النحس والمخاوف ، فتدلّني على الاحتراز من المخاوف فيها ؟ فإنّما تدعوني الضرورة إلى التوجّه في الحوائج فيها .
فقال لي : ( يا سهل ! إنّ لشيعتنا بولايتنا لعصمة ، لو سلكوا بها في لجّة البحار الغامرة ، وسباسب البيداء الغائرة ، بين سباع وذئاب ، وأعادي الجنّ والإنس ، لأمنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا ، فثق بالله عزّ وجلّ ، وأخلص في الولاء لأئمّتك الطاهرين ، وتوجّه حيث شئت ، واقصد ما شئت ، إذا أصبحت وقلت ثلاثاً : ( أصبحت اللّهم معتصماً بذمامك المنيع ، الذي لا يطاول ولا يحاول من شرّ كلّ طارق وغاشم ، من سائر ما خلقت ، ومن خلقت من خلقك الصامت والناطق في جنّة ، من كلّ مخوف بلباس سابغة ولاء أهل بيت نبيّك ، محتجزاً من كلّ قاصد لي إلى أذيّة بجدار حصين الإخلاص في الاعتراف بحقّهم ، والتمسّك بحبلهم جميعاً ، موقناً بأنّ الحقّ لهم ومعهم وفيهم وبهم ، أوالي من والوا ، وأجانب من جانبوا .
فأعذني اللّهم من شرّ كلّ ما أتقيه يا عظيم ، حجزت الأعادي عنّي ببديع السماوات والأرض ، أنّا جعلنا من بين أيديهم سدّاً ، ومن خلفهم سدّاً ، فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) .
وقلتها عشيّاً ثلاثاً ، حصنت في حصن من مخاوفك ، وأمن من محذورك ، فإذا أردت التوجّه في يوم قد حذّرت فيه ، فقدّم أمام توجهك : الحمد لله ربّ العالمين ، والمعوذتين ، وآية الكرسي ، وسورة القدر ، وآخر آية في سورة آل عمران ، وقل : ( اللّهم بك يصول الصائل ، وبقدرتك يطول الطائل ، ولا حول لكل ذي حول إلاّ بك ، ولا قوّة يمتارها ذو قوّة إلاّ منك ، بصفوتك من خلقك ، وخيرتك من بريتّك ، محمّد نبيّك وعترته وسلالته عليه وعليهم السلام ، صلّ عليهم ، واكفني شرّ هذا اليوم وضرره ، وارزقني خيره ويمنه .
واقض لي في متصرّفاتي بحسن العاقبة ، وبلوغ المحبّة ، والظفر بالأمنية ، وكفاية الطاغية الغوية ، وكلّ ذي قدرة لي على أذيّة ، حتّى أكون في جنّة وعصمة من كلّ بلاء ونقمة ، وأبدلني من المخاوف فيه أمناً ، ومن العوائق فيه يسراً ، حتّى لا يصدّني صادّ عن المراد ، ولا يحلّ بي طارق من أذى العباد ، إنّك على كلّ شيء قدير ، والأمور إليك تصير ، يا من ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ) .

2ـ دعاؤه ( عليه السلام ) :

( اللّهم إنّي أشهدك بحقيقة إيماني ، وعقد عزمات يقيني ، وخالص صريح توحيدي ، وخفيّ سطوات سرّي ، وشعري وبشري ، ولحمي ودمي ، وصميم قلبي وجوارحي ولبّي ، بأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت ، مالك الملك ، وجبّار الجبابرة ، وملك الدنيا والآخرة ، تعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، بيدك الخير إنّك على كل شيء قدير .
فأعزّني بعزّك ، واقهر لي من أرادني بسطوتك ، واخبأني من أعدائي في سترك ، صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون ، وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ، ومن خلفهم سدّاً ، فأغشيناهم فهم لا يبصرون .
بعزّة الله استجرنا ، وبأسماء الله إيّاكم طردنا ، وعليه توكّلنا ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد النبي وآله الطيبين الطاهرين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وهو نعم المولى ونعم النصير ، ومالنا إلاّ نتوكّل على الله ، وقد هدانا سبلنا ، ولنصبرنّ على ما آذيتمونا ، وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون ، ومن يتوكّل على الله فهو حسبه ، إنّ الله بالغ أمره ، قد جعل الله لكل شيء قدراً ) .

2ـ دعاؤه ( عليه السلام ) في رفع الضر :

( اللّهم أنت السلام ، ومنك السلام ، واليك يرجع السلام ، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ، والمنن العظام والأيادي الجسام ، الهي مسنّي وأهلي الضر ، وأنت أرحم الراحمين ، وأرأف الأرأفين ، وأجود الأجودين ، وأحكم الحاكمين ، وأعدل الفاصلين .
اللّهم إنّي قصدت بابك ، ونزلت بفنائك ، واعتصمت بحبلك ، واستغثت بك ، واستجرت بك ، يا غياث المستغيثين أغثني ، يا جار المستجيرين أجرني ، يا اله العالمين خذ بيدي ، إنّه قد علا الجبابرة في أرضك ، وظهروا في بلادك ، واتخذوا أهل دينك خولاً ، واستأثروا بفيء المسلمين ، ومنعوا ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلتها لهم ، وصرفوها في الملاهي والمعازف ، واستصغروا آلائك ، وكذّبوا أوليائك ، وتسلّطوا بجبروتهم ليعزوا من أذللت ، ويذلّوا من أعززت ، واحتجبوا عمّن يسألهم حاجة ، أو من ينتجع منهم فائدة ، وأنت مولاي سامع كل دعوة ، وراحم كل عبرة ، ومقيل كل عثرة ، سامع كل نجوى ، وموضع كل شكوى ، لا يخفى عليك شكوى ، لا يخفى عليك ما في السماوات العلى ، والأرضين السفلى ، وما بينهما وما تحت الثرى .
اللّهم إنّي عبدك ابن أمتك ، ذليل بين برّيتك ، مسرع إلى رحمتك ، راجٍ لثوابك ، اللّهم إنّ كل من أتيته فعليك يدلّني ، وإليك يرشدني ، وفيما عندك يرغّبني ، مولاي وقد أتيتك راجياً ، سيّدي وقد قصدتك مؤملاً ، يا خير مأمول ، ويا أكرم مقصود ، صل على محمّد وعلى آل محمد ، ولا تخيّب أملي ، ولا تقطع رجائي ، واستجب دعائي ، وارحم تضرّعي ، يا غياث المستغيثين أغثني ، يا جار المستجيرين أجرني ، يا اله العالمين خذ بيدي ، انقضني واستنقذني ، ووفّقني واكفني .
اللّهم إنّي قصدتك بأمل فسيح ، وأملتك برجاء منبسط ، فلا تخيّب أملي ، ولا تقطع رجائي ، اللّهم إنّه لا يخيب منك سائل ، ولا ينقصك نائل ، يا ربّاه يا سيّداه ، يا مولاه ، يا عماداه ، يا كهفاه ، يا حصناه ، يا حرزاه ، يا لجآه .
اللّهم إيّاك أمّلت يا سيّدي ، ولك أسلمت مولاي ، ولبابك قرعت ، فصل على محمّد وآل محمّد ، ولا تردّني بالخيبة محروماً ، واجعلني ممّن تفضّلت عليه بإحسانك ، وأنعمت عليه بتفضّلك ، وجدت عليه بنعمتك ، واسبغت عليه آلائك .
اللّهم أنت غياثي وعمادي ، وأنت عصمتي ورجائي ، مالي أمل سواك ، ولا رجاء غيرك .
اللّهم فصل على محمّد وآل محمّد ، وجد عليّ بفضلك ، وامنن عليّ بإحسانك ، وافعل بي ما أنت أهله ، ولا تفعل بي ما أنا أهله ، يا أهل التقوى وأهل المغفرة ، وأنت خير لي من أبي وأمي ، ومن الخلق أجمعين .
اللّهم إنّ هذه قصّتي إليك لا إلى المخلوقين ، ومسألتي لك إذ كنت خير مسؤول ، وأعز مأمول ، اللّهم صل على محمّد وآل محمّد ، وتعطف عليّ بإحسانك ، ومن عليّ بعفوك وعافيتك ، وحصّن ديني بالغنى ، وأحرز أمانتي بالكفاية ، واشغل قلبي بطاعتك ، ولساني بذكرك ، وجوارحي بما يقرّبني منك .
اللّهم ارزقني قلباً خاشعاً ، ولساناً ذاكراً ، وطرفاً غاضّاً ، ويقيناً صحيحاً ، حتّى لا أحب تعجيل ما أخّرت ، ولا تقديم ما أجّلت يا رب العالمين ، ويا أرحم الراحمين .
صل على محمّد وآل محمّد ، واستجب دُعائي ، وارحم تضرّعي ، وكفّ عنّي البلاء ، ولا تشمت بي الأعداء ، ولا حاسداً ، ولا تسلبني نعمة البستنيها ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ أبداً يا رب العالمين ، وصل على محمّد النبي وآله وسلّم تسليماً ) .

مواعظ الإمام الهادي ( عليه السلام )

للإمام الهادي ( عليه السلام ) مواعظ كثيرة ، نذكر إليك بعض منها :

الموعظة الأولى : الموت والسيّئات :

عن الحسن بن علي ( عليه السلام ) قال : دخل علي بن محمّد ( عليه السّلام ) على مريض من أصحابه وهو يبكي ويجزع من الموت ، فقال له : ( يا عبد الله تخاف من الموت لأنّك ﻻ تعرفه ، أرأيتك إذا اتّسخت وتقذّرت وتأذّيت من كثرة القذر والوسخ عليك ، وأصابك قروح وجرب ، وعلمت أنّ الغسل في حمّام يزيل ذلك كلّه ، أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك ؟ أو ما تكره أن ﻻ تدخله فيبقى ذلك عليك ) ؟
قال : بلى يا بن رسول الله .
قال : ( فذاك الموت هو ذلك الحمّام ، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك وتنقيتك من سيّئاتك ، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته فقد نجوت من كلّ غمّ وهمّ وأذى ووصلت إلى كلّ سرور وفرح ) ، فسكن الرجل ونشط واستسلم وغمض عين نفسه ومضى لسبيله ) .

الموعظة الثانية : دار البلوى :

قال ( عليه السلام ) : ( إنّ الله جعل الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ) .

الموعظة الثالثة : الدنيا سوق :

قال ( عليه السلام ) : ( الدنيا سوق ربح فيها قوم ، وخسر آخرون ) .

الموعظة الرابعة : اذكر مصرعك :

قال ( عليه السلام ) : ( اذكر مصرعك بين يدي أهلك ، ولا طبيب يمنعك ، ولا حبيب ينفعك ) .

الموعظة الخامسة : حسرات التفريط :

قال ( عليه السلام ) : ( اذكر حسرات التفريط تأخذ بقديم الحزم ) .

منهج الإمام الهادي ( عليه السلام ) في تفسير القرآن

قَدِم إلى المتوكِّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أنْ يقيمَ عليهِ الحَدَّ ، فأسلم الرجل النصراني .
فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يُضرب ثلاثة حدود .
فكتب المتوكِّل إلى الإمام الهادي يسأله ، فلمَّا قرأ الكتاب ، كتب الإمام ( عليه السلام ) : ( يُضْرَبُ حَتَّى ‌يَمُوتَ ) .
فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب المتوكل إلى الإمام يسأله عن العِلَّة ، فكتب الإمام ( عليه السلام ) : ( بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيْمِ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) غافر : 84 - 85 .
فَأمَر به المتوكِّلُ ، فَضُرِبَ حتى مَاتَ .

مكانة الإمام الهادي ( عليه السلام ) العلمية

اعتبر المؤرخون واصحاب السير الإمام الهادي ( عليه السلام ) علماً بارزاً من اعلام عصره في العلم والمعرفة .
وقد ذكر الشيخ الطوسي ( قدس سره ) في كتابه المعروف بـ ( رجال الطوسي ) مائة وخمسة وثمانين تلميذاً وراوياً ، أخذوا وروا عن الإمام الهادي ( عليه السلام ) ، الذي كان مرجع أهل العلم والفقه والشريعة في عصره .
وحفلت كتب الرواية والحديث والفقه والمناظرة والتفسير وأمثالها بما أثر عنه ، واستفيد من علومه ومعارفه .
وفيما يلي نذكر اسماء بعض تلامذته ورواته واصحابه :
1 ـ أحمد بن اسحاق بن عبد الله الاشعري .
2 ـ الحسين بن سعيد بن حماد الاهوازي .
3 ـ داود بن أبي يزيد من أهل نيشابور .
4 ـ علي بن مهزيار الاهوازي .
5 ـ الفضل بن شاذان النيشابوري .
كما أن للإمام ( عليه السلام ) رسائل في مختلف العلوم والأمور ، نورد بعضاً منها :
1 ـ رسالته في الردّ على الجبر والتفويض ، وإثبات العدل ، والمنزلة بين المنزلتين ، أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني في كتابه الموسوم بـ ( تحف ‌العقول ) .
2ـ أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله ، وهذه أيضاً أوردها الحرّاني أيضاً في تحف ‌العقول .
3ـ قطعة من أحكام الدين ، ذكرها ابن شهر آشوب في المناقب .
ومن القصص التي تنقل في علمه ( عليه السلام ) هي :
1ـ قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحَدَّ فأسلم النصراني .
فقال يحيى بن أكثم : قد هدم إيمانه شركه وفعله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، وقل بعضهم : يفعل به كذا وكذا .
فأمر المتوكِّل بالكتاب إلى الإمام الهادي ( عليه السلام ) وسؤاله عن ذلك .
فلمَّا قرأ الكتاب كتب ( عليه السلام ) : ( يضرب حتَّى يموت ) .
فأنكر يحيى وأنكر فقهاء العسكر ذلك ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، سَلْهُ عن ذلك ، فإنَّه شيء لم ينطق به كتاب ، ولم يجئ به سنة .
فكتب إليه : إن الفقهاء قد أنكروا هذا وقالوا : لم يجئ به سنة ولم ينطق به كتاب ، فَبَيِّن لنا لِمَ أوجبت عليه الضرب حتَّى يموت ؟‍‍‍!!
فكتب الإمام ( عليه السلام ) : ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فَلمَّا رَأَوا بَأسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ، فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُم إِيْمَا نُهُم لَمَّا رَأَوا بَأسَنَا ) غافر : 44 - 45 .
فأمر به المتوكل ، فَضُرِب حتَّى مات .
2ـ لمَّا سُمَّ المتوكل ، نذر لله إن رزقه الله العافية أن يتصدّق بمال كثير ، فلمَّا سُلِمَ وَعُوفِي سأل الفقهاء عن حَدِّ المال الكثير كم يكون ؟
فاختلفوا عليه ، فقال بعضهم : ألف درهم ، وقال بعضهم : عشرة آلاف درهم ، وقال بعضهم : مائة ألف درهم ، فاشتبه عليه هذا .
فقال له الحسن حاجبه : إن أتيتُك يا أمير المؤمنين من الخلق برجل يخبرك الصواب فما لي عندك ؟
فقال المتوكِّل : إن أتيت بالحقّ فلك عشرة آلاف درهم ، وإلا أضربك مائة مقرعة .
قال الحاجب : قد رضيت ، فأتى الإمام الهادي ( عليه السلام ) فسأله عن ذلك .
فقال له الإمام ( عليه السلام ) : قل له : ( تَصدَّق بثمانين درهماً ) .
فرجع الحاجب إلى المتوكِّل فأخبره ، فقال المتوكل : سَلْهُ مَا العِلَّة في ذلك ؟
فأتى الحاجب الإمام ( عليه السلام ) فسأله .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : إنَّ الله عزَّوجل قال لنبيِّه ( صلى الله عليه وآله ) : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِن كَثِيرة ) التوبة : 25 ، فعددنا مواطن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فَبَلَغَتْ ثمانين موطناً .
فرجع الحاجب إلى المتوكل فأخبره ، ففرح المتوكِّل وأعطاه عشرة آلاف درهم .

كرم الإمام الهادي ( عليه السلام )

كان الإمام الهادي ( عليه السلام ) من أهل بيت عادتهم الإحسان وسجيّتهم الكرم والجود .
جاء في التاريخ : دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد ، وأحمد بن إسحاق الأشعري ، وعلي بن جعفر الهمداني على الإمام الهادي ( عليه السلام ) ، فشكى إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه ، فقال : ( يا أبا عمرو ـ وكان وكيله ـ إدفع إليه ثلاثين ألف دينار ، وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار ، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار ) ، فهذا في الواقع كرم لا يقدر عليه إلاّ الملوك ، وما سمعنا بمثل هذا العطاء والجود .
والقصّة التالية تعكس قمّة الإيثار عند الإمام ( عليه السلام ) حيث سعى لقضاء حاجة واحدة من مواليه بطريقة عجيبة .
قال محمّد بن طلحة : خرج ( عليه السلام ) يوماً من سر من رأى إلى قرية لِمُهّمٍ عرض له ، فجاء رجل من الأعراب يطلبه ، فقيل له قد ذهب إلى الموضع الفلاني ، فقصده ، فلمّا وصل إليه قال له ( عليه السلام ) : ( ما حاجتك ؟ ) .
فقال : أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسّكين بولاية جدّك علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قد ركبني دين فادح أثقلني حمله ، ولم أر من أقصده لقضاءه سواك .
فقال له ( عليه السلام ) : ( طب نفساً وقر عيناً ) ، ثمّ أنزله ، فلمّا أصبح ذلك اليوم ، قال له ( عليه السلام ) : ( أريد منك حاجة ، الله الله أن تخالفني فيها ) ، فقال الأعرابي : لا أخالفك ، فكتب ( عليه السلام ) ورقة بخطّه معترفاً فيها أنّ عليه للأعرابي مالاً عينه فيها يرجح على دينه ، وقال : ( خذ هذا الخط ، فإذا وصلت إلى سر من رأى إحضر إليّ وعندي جماعة ، فطالبني به وأغلظ القول عليَّ في ترك إبقائك إيّاه ، الله الله في مخالفتي ) .
فقال : أفعل ، وأخذ الخط ، فلمّا وصل ( عليه السلام ) إلى سر من رأى ، وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم ، حضر ذلك الرجل وأخرج الخط وطالبه ، وقال كما أوصاه ، فألان ( عليه السلام ) له القول ورفقه ، وجعل يعتذر ، ووعده بوفائه وطيبة نفسه ، فنقل ذلك إلى الخليفة المتوكّل ، فأمر أن يحمل إلى الإمام ( عليه السلام ) ثلاثون ألف درهم ، فلمّا حملت إليه تركها إلى أن جاء الرجل ، فقال : ( خذ هذا المال واقض منه دينك ، وأنفق الباقي على عيالك وأهلك ، واعذرنا ) .
فقال له الأعرابي : يا ابن رسول الله ، والله إنّ أملي كان يقصر عن ثلث هذا ، ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وأخذ المال وانصرف .

ولادة الإمام علي الهادي(عليه السلام)

اسمه ونسبه(عليه السلام)

الإمام علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).

كنيته(عليه السلام)


أبو الحسن، ويقال له(عليه السلام) أيضاً: أبو الحسن الثالث؛ تمييزاً له عن الإمام علي الرضا(عليه السلام)، فإنّه أبو الحسن الثاني... .

ألقابه(عليه السلام)


الهادي، المتوكّل، الفتّاح، النقي، المرتضى، النجيب، العالم... وأشهرها الهادي.

تاريخ ولادته(عليه السلام) ومكانها


15 ذو الحجّة 212ﻫ، وقيل: 2 رجب 212ﻫ، المدينة المنوّرة، قرية صريا، تبعد ثلاث أميال عن المدينة المنوّرة.

أُمّه(عليه السلام) وزوجته


أُمّه السيّدة سُمانة المغربية، وهي جارية، وزوجته السيّدة سَوسَن، وهي أيضاً جارية.

مدّة عمره(عليه السلام) وإمامته


عمره 42 سنة، وإمامته 33 سنة.

حكّام عصره(عليه السلام)


المعتصم، الواثق، المتوكّل.

مكانته العلمية(عليه السلام)


لقد أجمع أرباب التاريخ والسير على أنّ الإمام(عليه السلام) كان علماً لا يجارى من بين أعلام عصره، وقد ذكر الشيخ الطوسي في كتابه (رجال الطوسي) مائة وخمسة وثمانين تلميذاً وراوياً، تتلمذوا عنده ورووا عنه.
وكان مرجع أهل العلم والفقه والشريعة، وحفلت كتب الرواية والحديث والمناظرة والفقه والتفسير وأمثالها بما أُثر عنه واستُلهم من علومه ومعارفه.

هيبته(عليه السلام) في القلوب


قال محمّد بن الحسن الأشتر العلوي: «كنت مع أبي على باب المتوكّل في جمعٍ من الناس ما بين طالبي إلى عبّاسي وجعفري، فتحالفوا لا نترجّل لهذا الغلام، فما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ـ يعنون أبا الحسن(عليه السلام) ـ فما هو إلّا أن أقبل وبصروا حتّى ترجّل له الناس كلّهم، فقال لهم أبو هاشم: أليس زعمتم أنّكم لا تترجّلون له؟ فقالوا له: والله ما ملكنا أنفسنا حتّى ترجّلنا»(1).

معجزاته(عليه السلام)


من خصائص الأئمّة(عليهم السلام) ارتباطهم المنقطع النظير بالله تعالى وبعالم الغيب، وذلك هو مقام العصمة والإمامة، ولهم ـ كالأنبياء ـ معاجز وكرامات، توثّق ارتباطهم بالله تعالى، كونهم أئمّة معصومين، وللإمام الهادي(عليه السلام) أيضاً معاجز وكرامات سجّلتها كتب التاريخ، منها:
1ـ في الثامنة من عمره الشريف(عليه السلام) تتوّج بالإمامة العامّة، وهذا منصب يعجز عنه الكبار فضلاً عن الصغار، إلّا بتأييدٍ من الله تعالى.
2ـ قدم خيران الأسباطي إلى المدينة المنوّرة، وجاء إلى الإمام الهادي(عليه السلام)، فسأله(عليه السلام) عن أخبار الواثق، فقال له خيران: خلّفته منذ عشرة أيام بخيرٍ وعافية، فقال له الإمام(عليه السلام): «لابدّ أن تجري مقادير الله وأحكامه، يا خيران، لقد مات الواثق وجاء المتوكّل بمكانه».
فقال خيران: متى، جُعلت فداك؟ فقال: «بعد خروجك بستّة أيّام»، وبالفعل لم يمض سوى عدّة أيّام حتّى جاء مبعوث المتوكّل وشرح الأحداث، فكانت كما نقلها الإمام الهادي(عليه السلام)(2).
3ـ أمر المتوكّل بإحضار ثلاثة سباع، فجيء بها إلى صحن قصره، ثمّ دعا الإمام الهادي(عليه السلام)، فلمّا دخل أغلق باب القصر، فدارت السباع حول الإمام(عليه السلام) وخضعت له، وهو يمسحها بكمّه، ثمّ خرج فأتبعه المتوكّل بجائزة عظيمة. فقيل للمتوكّل: إنّ ابن عمّك ـ أي الإمام(عليه السلام) ـ يفعل بالسباع ما رأيت، فافعل بها ما فعل ابن عمّك! قال: أنتم تريدون قتلي، ثمّ أمرهم ألاّ يتكلّموا بذلك(3).

من وصاياه(عليه السلام)


1ـ قال(عليه السلام): «من جمع لك ودّه ورأيه، فاجمع له طاعتك»(4).
2ـ قال(عليه السلام): «من هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه»(5).
3ـ قال(عليه السلام): «الدنيا سوق، ربح فيها قوم وخسر فيها آخرون»(6).
4ـ قال(عليه السلام): «من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه»(7).
5ـ قال(عليه السلام): «الهزل فكاهة السفهاء وصناعة الجهّال»(8).
ـــــــــــــــــــــــــــ
1ـ مناقب آل أبي طالب 3/511.
2ـ اُنظر: الكافي 1/498.
3ـ اُنظر: ينابيع المودّة 3/129.
4ـ تحف العقول: 483.
5ـ المصدر السابق.
6ـ المصدر السابق.
7ـ بحار الأنوار 69/316.
8ـ المصدر السابق 75/369.

أدعية الإمام الهادي ( عليه السلام )

للإمام الهادي ( عليه السلام ) أنواع من الأدعية والابتهالات تدلّ على مدى اتّصاله بالله ، ومدى تعلّقه به ، وانقطاعه إليه ، وإليك بعض نماذجها :

1ـ دعاؤه عند الشدائد :

كان ( عليه السلام ) يدعو به إذا ألمّت به حادثة ، أو حلّ به خطب ، أو أراد قضاء حاجة مهمّة ، وكان قبل أن يدعو به يصوم يوم الأربعاء والخميس والجمعة ، ثمّ يغتسل في أوّل يوم الجمعة ، ويتصدّق على مسكين ، ويصلّي أربع ركعات ، فيقرأ في الركعة الأولى سورة الفاتحة وسورة ياسين ، وفي الثانية سورة الحمد وحم الدخان ، وفي الثالثة سورة الحمد مع سورة الواقعة ، وفي الرابعة سورة الحمد وسورة تبارك ، وإذا فرغ منها بسط راحتيه إلى السماء ، ودعا بإخلاص قائلاً بعد البسملة :
( اللهم لك الحمد حمداً يكون أحق الحمد بك ، وأرضى الحمد لك ، وأوجب الحمد لك ، وأحب الحمد إليك ، ولك الحمد كما أنت أهله ، وكما رضيته لنفسك ، وكما حمدك من رضيت حمده من جميع خلقك ، ولك الحمد كما حمدك به جميع أنبيائك ورسلك وملائكتك ، وكما ينبغي لعزّك وكبريائك وعظمتك ، ولك الحمد حمداً تكل الألسن عن صفته ، ويقف القول عن منتهاه ، ولك الحمد حمداً لا يقصر عن رضاك ولا يفضله شيء من محامدك .
اللهم ومن جودك وكرمك أنّك لا تخيّب من طلب إليك وسألك ورغب فيما عندك ، وتبغّض من لم يسألك ، وليس كذلك أحد غيرك ، وطمعي يا ربّ في رحمتك ومغفرتك ، وثقتي بإحسانك وفضلك حداني على دعائك والرغبة إليك ، وانزل حاجتي بك ، وقد قدّمت أمام مسألتي التوجّه بنبيّك الذي جاء بالحق والصدق فيما عندك ، ونورك وصراطك المستقيم الذي هديت به العباد ، وأحييت بنوره البلاد ، وخصصته بالكرامة ، وأكرمته بالشهادة ، وبعثته على حين فترة من الرسل ، اللهم دللت عبادك على نفسك فقلت تباركت وتعاليت :
( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) ، وقلت : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، وقلت : ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) .
أجل يا رب نعم المدعو أنت ، ونعم الربّ أنت ونعم المجيب ، وقلت : ( قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ) ، وأنا أدعوك اللهم بأسمائك التي إذا دعيت بها أجبت ، وإذا سُئلت بها أعطيت ، وأدعوك متضرّعاً إليك مستكيناً ، دعاء من أسلمته الغفلة ، وأجهدته الحاجة ، أدعوك دعاء من استكان ، وأعترف بذنبه ، ورجاك لعظيم مغفرتك ، وجزيل مثوبتك ) .

2ـ دعاء الاعتصام :

قال ( عليه السلام ) : ( يا عدّتي عند العدد ، ويا رجائي والمعتمد ، ويا كهفي والسند ، ويا واحد يا أحد ، يا قل هو الله أحد ، أسألك اللهم بحق من خلقته من خلقك ، ولم تجعل في خلقك مثلهم أحد ، أن تصلّي عليهم وتفعل بي ... ) ، ثمّ تذكر حاجتك ) .

3ـ دعاء المظلوم على الظالم :

قال ( عليه السلام ) : ( اللّهم إنّي وفلاناً عبدان من عبيدك ، نواصينا بيدك ، تعلم مستقرّنا ومستودعنا ، وتعلم منقلبنا ومثوانا ، وسرّنا وعلانيتنا ، وتطلع على نيّاتنا ، وتحيط بضمائرنا ، علمك بما نبديه كعلمك بما نخفيه ، ومعرفتك بما نبطنه كمعرفتك بما نظهره ، ولا ينطوي عليك شيء من أمورنا ، ولا يستتر دونك حال من أحوالنا ، ولا لنا منك معقل يحصننا ، ولا حرز يحرزنا ، ولا هارب يفوتك منّا .
ولا يمتنع الظالم منك بسلطانه ، ولا يجاهدك عنه جنوده ، ولا يغالبك مغالب بمنعة ، ولا يعازّك متعزّز بكثرة أنت مدركه أينما سلك ، وقادر عليه أينما لجأ ، فمعاذ المظلوم منّا بك ، وتوكّل المقهور منّا عليك ، ورجوعه إليك ، ويستغيث بك إذا خذله المغيث ، ويستصرخك إذا قعد عنه النصير ، ويلوذ بك إذا نفته الأفنية ، ويطرق بابك إذا أغلقت دونه الأبواب المرتجة ، ويصل إليك إذا احتجبت عنه الملوك الغافلة ، تعلم ما حلّ به قبل أن يشكوه إليك ، وتعرف ما يصلحه قبل أن يدعوك له ، فلك الحمد سميعاً بصيراً لطيفاً قديراً .
اللّهم إنّه قد كان في سابق علمك ، ومحكم قضائك ، وجاري قدرك ، وماضي حكمك ، ونافذ مشيّتك في خلقك أجمعين ، سعيدهم وشقيّهم وبرّهم وفاجرهم أن جعلت لفلان بن فلان عليّ قدرة فظلمني بها ، وبغى عليّ لمكانها ، وتعزّز عليّ بسلطانه الذي خوّلته إيّاه ، وتجبّر عليّ بعلوّ حاله التي جعلتها له ، وغرّه إملاؤك له ، وأطغاه حلمك عنه .
فقصدني بمكروه عجزت عن الصبر عليه ، وتعمّدني بشرّ ضعفت عن احتماله ، ولم أقدر على الانتصار منه لضعفي ، والانتصاف منه لذلّي ، فوكلته إليك وتوكّلت في أمره عليك ، وتوعدته بعقوبتك ، وحذّرته سطوتك ، وخوّفته نقمتك ، فظنّ أن حلمك عنه من ضعف ، وحسب أنّ إملاءك له من عجز ، ولم تنهه واحدة عن أخرى ، ولا انزجر عن ثانية بأولى ، ولكنّه تمادى في غيّه ، وتتابع في ظلمه ، ولجّ في عدوانه ، واستشرى في طغيانه جرأة عليك يا سيّدي ، وتعرّضاً لسخطك الذي ﻻ تردّه عن القوم الظالمين ، وقلّة اكتراث ببأسك الذي ﻻ تحبسه عن الباغين .
فها أنا ذا يا سيّدي مستضعف في يديه ، مستضام تحت سلطانه ، مستذلّ بعنائه ، مغلوب مبغيّ عليّ مغضوب وجل خائف مروّع مقهور ، قد قلّ صبري وضاقت حيلتي ، وانغلقت عليّ المذاهب إلاّ إليك ، وانسدّت عليّ الجهات إلاّ جهتك ، والتبست عليّ أموري في دفع مكروهه عنّي ، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه ، وخذلني من استنصرته من عبادك ، وأسلمني من تعلّقت به من خلقك طرّاً ، واستشرت نصيحي فأشار عليّ بالرغبة إليك ، واسترشدت دليلي فلم يدلّني إلاّ عليك .
فرجعت إليك يا مولاي صاغراً راغماً مستكيناً ، عالماً أنّه ﻻ فرج إلاّ عندك ، ولا خلاص لي إلاّ بك ، انتجز وعدك في نصرتي ، وإجابة دعائي ، فإنّك قلت وقولك الحق الذي ﻻ يردّ ولا يبدل : ( وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ ) وقلت جلّ جلالك وتقدّست أسماؤك : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، وأنا فاعل ما أمرتني به لا منّاً عليك ، وكيف أمن به وأنت عليه دللتني ، فصلّ على محمّد وآل محمّد ، واستجب لي كما وعدتني يا من ﻻ يخلف الميعاد .
وإنّي لأعلم يا سيّدي أنّ لك يوماً تنتقم فيه من الظالم للمظلوم ، وأتيقّن أنّ لك وقتاً تأخذ فيه من الغاصب للمغصوب ، لأنّك ﻻ يسبقك معاند ، ولا يخرج عن قبضتك منابذ ، ولا تخاف فوت فائت ، ولكن جزعي وهلعي ﻻ يبلغان بي الصبر على أناتك وانتظار حلمك ، فقدرتك عليّ يا سيّدي ومولاي فوق كلّ قدرة ، وسلطانك غالب على كل سلطان ، ومعاد كلّ أحد إليك وإن أمهلته ، ورجوع كلّ ظالم إليك وإن أنظرته ، وقد أضرّني يا ربّ حلمك عن فلان بن فلان ، وطول أناتك له وإمهالك إيّاه ، وكاد القنوط يستولي عليّ لولا الثقة بك ، واليقين بوعدك .
فإن كان في قضائك النافذ ، وقدرتك الماضية أن ينيب أو يتوب ، أو يرجع عن ظلمي أو يكفّ مكروهه عنّي ، وينتقل عن عظيم ما ركب منّي ، فصلّ اللّهم على محمّد وآل محمّد ، وأوقع ذلك في قلبه الساعة الساعة قبل إزالته نعمتك التي أنعمت بها عليّ ، وتكديره معروفك الذي صنعته عندي .
وإن كان في علمك به غير ذلك ، من مقام على ظلمي ، فأسألك يا ناصر المظلوم المبغى عليه إجابة دعوتي ، فصل على محمّد وآل محمّد ، وخذه من مأمنه أخذ عزيزٍ مقتدر ، وأفجئه في غفلته ، مفاجأة مليك منتصر ، واسلبه نعمته وسلطانه ، وأفض عنه جموعه وأعوانه ، ومزّق ملكه كلّ ممزّق ، وفرّق أنصاره كلّ مفرّق ، وأعره من نعمتك التي لم يقابلها بالشكر ، وانزع عنه سربال عزّك الذي لم يجازه بالإحسان ، واقصمه يا قاصم الجبابرة ، وأهلكه يا مهلك القرون الخالية ، وأبره يا مبير الأمم الظالمة ، واخذله يا خاذل الفئات الباغية ، وابتر عمره ، وابتزّ ملكه ، وعفّ أثره ، واقطع خبره ، وأطفئ ناره ، وأظلم نهاره ، وكوّر شمسه ، وأزهق نفسه ، وأهشم شدّته ، وجبّ سنامه ، وأرغم أنفه ، وعجّل حتفه ، ولا تدع له جُنّة إلاّ هتكتها ، ولا دعامة إلاّ قصمتها ، ولا كلمة مجتمعة إلاّ فرّقتها ، ولا قائمة علوّ إلاّ وضعتها ، ولا ركناً إلاّ وهنته ، ولا سبباً إلاّ قطعته .
وأرنا أنصاره وجنده وأحبّائه وأرحامه عباديد بعد الألفة ، وشتّى بعد اجتماع الكلمة ، ومقنعي الرؤوس بعد الظهور على الأمّة ، واشف بزوال أمره القلوب المنقلبة الوجلة ، والأفئدة اللهفة ، والأمّة المتحيّرة ، والبرية الضائعة ، وأدل ببواره الحدود المعطّلة ، والأحكام المهملة ، والسنن الداثرة ، والمعالم المغيّرة ، والمساجد المهدومة .
وأرح به الأقدام المتعبة ، وأشبع به الخماص الساغبة ، وأرو به اللهوات اللاغبة ، والأكباد الظامئة ، واطرقه بليلة ﻻ أخت لها ، وساعةٍ ﻻ شفاء منها ، وبنكبة ﻻ انتعاش معها ، وبعثرةٍ ﻻ إقالة منها ، وأبح حريمه ، ونغّص نعيمه ، وأره بطشتك الكبرى ، ونقمتك المثلى ، وقدرتك التي هي فوق كل قدرة ، وسلطانك الذي هو أعزّ من سلطانه ، واغلبه لي بقوّتك القوية ، ومحالك الشديد ، وامنعني منه بمنعتك التي كل خلق فيها ذليل ، وابتله بفقرٍ ﻻ تجبره ، وبسوء ﻻ تستره ، وكله إلى نفسه فيما يريد ، إنّك فعّال لما تريد .
وابرأه من حولك وقوّتك ، وأحوجه إلى حوله وقوّته ، وأذلّ مكره بمكرك ، وادفع مشيّته بمشيّتك ، واسقم جسده ، وأيتم ولده ، وانقص أجله ، وخيّب أمله ، وأزل دولته ، وأطل عولته ، واجعل شغله في بدنه ، ولا تفكّه من حزنه ، وصيّر كيده في ضلال ، وأمره إلى زوال ، ونعمته إلى انتقال ، وجدّه في سفال ، وسلطانه في اضمحلال ، وعافيته إلى شر مآل ، وأمِتْه بغيظه إذا أمتّه ، وأبقه لحزنه إن أبقيته ، وقني شرّه وهمزه ولمزه ، وسطوته وعداوته ، والمحه لمحة تدمّر بها عليه ، فإنّك أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً ، والحمد لله ربّ العالمين ) .

أخبار الإمام الهادي ( عليه السلام ) مع المتوكِّل العباسي

كانَ المتوكِّلُ من أخبثِ الخلفاء العباسيين ، وأشدِّهم عِداءً للإمام علي ( عليه السلام ) ، فَبَلَغه مقام الإمام علي ‌الهادي ( عليه السلام ) بالمدينة ، ومكانته ، وميل الناس إليه ، فخاف منه ودَعَا ‌يحيى بن هرثمة ، وقال له : اِذْهب إلى المدينة ، وانظر في حالِهِ وأشخِصْه إلينا .
قال يحيى : فذهبتُ إلى المدينة ، فلمَّا دخلتُها ضَجَّ أهلُها ضجيجاً عظيماً ما سَمِع ‌الناس بمثله ، خوفاً على عليٍّ ، وقامت الدنيا على سَاق ، لأنه كان محسناً إليهم ، ملازماً للمسجد ، ولم يكن عنده مَيل إلى الدنيا .
فجعلتُ أسكِّنُهم وأحْلف لهم أنِّي لم أؤمَر فيه بِمَكروه ، وأنَّه لا بأس عليه ، ثُمَّ فتَّشتُ منزلَه فلم أجد فيه إلاَّ مصاحف وأدعية ، وكتب العلم ، فعظُم في عيني ، وتولَّيتُ خدمتَه بنفسي ، وأحسنتُ عِشرتَه .
فلما قدمت به بغداد ، بدأتُ ‌بإسحاق بن إبراهيم الطاهري ، وكان والياً على بغداد ، فقال لي : يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله ، والمتوكِّل من تعلم ، فإن حرَّضتَه عليه قتله ، و كان ‌رسول الله خصمَكَ يوم القيامة .
فقلت له : والله ما وقفت منه إلاَّ على كلِّ أمر جميل .
ثمَّ سِرتُ به إلى ( سُرَّ مَنْ رَأى ) ، فبدأت بـ( وصيف ) التركي ، فأخبرتُه بوصوله ، فقال : والله لَئن سَقطَ منه شعرة لا يُطالَبُ بها سواك .
فلمّا دخلت على المتوكِّل سألني ‌عنه ، فأخبرته بِحُسن سيرته ، وسلامَة طَريقته ، وَوَرعه وزهادته ، وأني فتَّشت داره فلم أجد فيها إلا المصاحف وكتب العلم ، وإنَّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرمه ‌المتوكِّل ، وأحسن جائزته ، وأجزل برَّه ، وأنزلَه معه سَامرَّاء .
ومع أنَّ الإمام ( عليه السلام ) كان يعيش في نفس البلد الذي يسكن فيه المتوكِّل ، وكانت العيون والجواسيس تراقبه عن كثب ، فقد وُشي به إلى المتوكِّل بأن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم ، وأنه عازم بالوثوب على الدولة .
فبعث إليه جماعة ‌من الأتراك ، فهاجموا دار الإمام ( عليه السلام ) ليلاً ، فلم يجدوا فيها شيئاً .
ثم وجدوا الإمام ( عليه السلام ) في بيت مغلق ‌عليه ، وعليه مدرعة من صوف ، وهو جالس على الرمل والحصى ، متوجِّه إلى الله تعالى ، يتلو آيات من القرآن الكريم ، فحمل على حاله تلك إلى المتوكِّل ، وقالوا له : لم ‌نجد في بيته شيئاً ، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة .
وكان المتوكِّل جالساً في ‌مجلس الشراب فأُدخِل عليه ، فلمَّا رأى المتوكل الإمام ( عليه السلام ) هَابَهُ ، وعظَّمه ، وأجلسه إلى ‌جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( وَاللهِ مَا خَامَرَ لَحْمِي ‌وَدَمِي قَط ، فَاعْفِنِي ) ، فأعفاه وقال له : أنشِدْني شعراً .
فقال الإمام الهادي ( عليه السلام ) : ( أنَا قَليلُ الروَايَةِ ‌لِلشِّعْرِ ) ، فقال : لابُدَّ .
فأنشده الإمام ( عليه السلام ) وهو جالس عنده ، فقال :
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الأجبَالِ تَحْرُسُهُم ** غُلْبُ الرِّجَالِ فَمَا أغْنَتْهُمُ القُلَلُ
وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِم ** وَأُسْكِنُوا حُفَراً يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا
نَادَاهُمُ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ دَفْنِهِمُ ** أيْنَ الأسَاوِرُ والتِّيْجَانُ وَالحُلَلُ
أيْنَ الوُجُوهُ الَّتي كَانَتْ مُنَعَّمَةً ** مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ الأستَارُ والكُلَلُ
فَأفْصَحَ القَبرُ عَنْهُم حِينَ سَاءَلَهُم ** تِلْكَ الوُجُوُهُ عَلَيْهَا الدُّودُ يَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَمَا أكَلوا دَهْراً وَقَدْ شَرِبُوا ** فَأصْبَحُوا بَعْدَ طُولِ الأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا
فبكى المُتوكِّلُ حتى بَلَّتْ لِحيَتَهُ دموعُ عَينَيه ، وبكى الحاضرون ، ثُمَّ ردَّ الإمام ( عليه السلام ) إلى منزلِهِ مكرَّماً .